التوحيد حق الله على العبيد


قال ابن سيرين -رحمه الله : إن هذا العلم دين

حياكم الله أينما كنتم

الأحد، 27 أكتوبر 2013

تفريغ الشريط الأول لشرح كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للشيخ عبد الرزاق البدر-حفظه الله -

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
حياكم الله في مدونة التوحيد حق الله على العبيد
تدارسنا البارحة وأيام قبله من الملف الأول لمدارسات كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء , في حين نحن في طور رفع البقية حفظكم الله...
الشريط الأول


تفريغ روضة العقلاء ونزهة الفضلاء

للعلامة: ابن حبان البستي
بشرح فضيلة الشيخ: عبد الرزاق البدر


بـــــــــسم الله الرحمــــن الرحيـــــــــم

الحمد لله رب العالمين و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ،اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً وأصلح لنا شأننا كله
ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنها سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت . أما بعد:
فهذا كتاب عظيم في بابه (باب الآداب والأخلاق الشرعية) المتلقّاة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله تعالى ، وبين يدي دراسة ومذاكرة هذا الكتاب, والوقوف مع مضامينه المفيدة أقف وقفات لا تخلو من فائدة إن شاء الله.
الأمر الأول:
تسمية هذا الكتاب:


سماه مصنفه رحمه الله تعالى (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ).


- وهذا يفيد أن أهل العلم يرون أن مسائل العلم وتفاصيله وفنونه العظيمة يعدّ ذلك روضة رنّاء وبستانا بهيجا ومنتزها عظيما ،و لهذا ترى هذا المعنى الذي يراه أهل العلم في العلم ومسائله ودلائله ترى هذا المعنى الذي قام في صدورهم يجعلونه عنواناً لمؤلفاتهم مثل هذا الكتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء وكتاب رياض الصالحين ،كتاب الروض المربع ،كتاب الروض الأُنُف إلى غير ذلك من كتب كثيرة سماها أهل العلم بمثل هذه التسمية مما يفيد أن أهل العلم رحمهم الله تعالى يرون العلم بمسائله ودلائله كالبستان الجميل والروضة البهيجة التي فيها نزهة النفوس وقرة العيون وبهجة الصدور، بل إن العلماء يجدون من اللذة في مسائل العلم ودلائله والغور فيه.
يجدون في ذلك من اللذة والأنس ما لا يجده المتنزه في أجمل روضة وأطيب بستان وذلك فضل الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .


ومما يذكر في هذا الباب أو من لطيف ما يذكر في هذا الباب ما جاء في ترجمة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه رحمه الله تعالى كان في صغره وكان منذ صغره شغوفاً بالعلم وعاكفاً على العناية به وضبطه وكان أهله في الشام فأرادوا يوماً الخروج إلى النزهة ، فاعتذر وفضل البقاء في البيت وهو إذ ذاك صغيراً ، فلمّا رجعوا أخذ إخوانه يغايرونه رأينا كذا وشاهدنا كذا ولم ترَ معنا قال ذهبتم ولم تأتوا بشيء وفي غيبتكم حفظت كتاب كذا وكذا في غيبتكم كذا وكذا كان كتابا في النحو حفظه رحمه الله في غيبتهم
فانظر كيف يجد من تذوق العلم هذه الحلاوة وهذه اللذة بحيث يعتبر العلم روضة ونزهة وبستاناً
ولا يعنى هذا انقطاع العلماء وطلاب العلم عن النزهة، النزهة إلى البستان أو البراري أونحو ذلك تجمّع الفؤاد وتؤنسه لكنهم يجدون في العلم من اللذة والنزهة أعظم مما يجده الإنسان من تنزهه في البساتين والروضات.


الأمر الثاني
مؤلف هذا الكتاب كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء:
هو الإمام أبوحاتم محمد بن حبان البُستي- رحمه الله تعالى-


صدَّر الذهبي رحمه الله ترجمته لهذا الإمام في سير أعلام النبلاء بقوله:
الإمام الحافظ المجود شيخ خراسان صاحب الكتب المشهورة ،ونقل عن الحاكم رحمه الله أنه قال كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال


ولادته:
كانت ولادته رحمه الله تعالى سنة بضع وسبعين ومئتين .


وفاته:
وكانت وفاته سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين للهجرة.


مصنفاته:
له مصنفات كثيرة وكثير من مصنفاته مفقود لأنه رحمه الله كان كثير التصنيف ,وأيضاً تنوعت مصنفاته في فنون العلم ,وجعل جميع مصنفاته وما يملكه من كتب في مكتبة أوقفها رحمه الله . لكنها كانت في مكان لا يُعتنَى به بالكتب ولا تُعرَف قيمتها ومكانتها فتَلِف أكثرها وفقد الكثير منها وإلا فإنه رحمه الله تعالى كان كثير التصنيف
من مصنفاته المسند الصحيح والتاريخ والضعفاء وغيرها من الكتب المفيدة.


نقل الذهبي رحمه الله في كتابه سير أعلام النبلاء عن ابن حبان أنه قال في ثنايا كتابه الأنواع والتقاسيم قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ
قال الذهبي رحمه الله معلقاً كذا فلتكن الهِمم هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف ,هذه نبذة مختصرة عن هذا الكتاب .


الأمر الثالث:
ولا أظن أن فيه بالنسبة للإخوة كبير فائدة لكنني أذكره هكذا بالمناسبة
"هذا الكتاب صلتي به كانت منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية من الجامعة الإسلامية وكان هذا الكتاب مقرراً علينا في مادة المطالعة فمنذ ذلك الوقت تذوقت حلاوة هذا الكتاب وطعمه عام ألف وثلاثمائة وثمان وتسعين والنسخة التي عندي كانت من الكتب التي توزعها الجامعة للطلاب نسخة قديمة من الورق الأصفر العتيق وكنا درسناها في الجامعة في المرحلة الثانوية في مادة المطالعة والقراءة ،فصلتي بذلك الكتب منذ ذلك الوقت ،وكان أيضا مقررا على الطلاب في المعاهد العلمية .


يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح حلية طالب العلم: ومن أحسن ما رأيت في هذا كتاب روضة العقلاء للبستي كتاب عظيم على اختصاره فيه فوائد عظيمة ومآثر كريمة للعلماء للمحدثين وغيرهم .
وكان مقررا في المعاهد أيام كنا ندرس في المعهد مقررا كتاب مطالعة للطلاب وانتفع به الكثير وقال أيضاً رحمه الله تعالى كتاب روضة العقلاء لابن حبان البستي رحمه الله تعالى وهو كتاب مفيد على اختصاره وجمع عددا كبيرا من الفوائد ومآثر المحدثين وغيرهم .


الأمر الرابع :
أن هذا الكتاب كتاب روضة العقلاء لابن حبان رحمه الله تعالى كتاب صنفه في الآداب والأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم مبينا رحمه الله تعالى أنها صفة أولي الحِجا والعقول السليمة والنُهى القويمة.
حيث عقد رحمه الله تعالى في هذا الكتاب خمسين بابا كلها في تقرير ذلك .
كما أشار إلى ذلك رحمه الله عند كلامه على إصلاح السرائر بلزوم تقوى الله قال: وإني ذاكر في هذا الكتاب إنِ الله قضى ذلك وشاء خمسين شعبة من شعب العقل من المأمورات والمزجورات ليكون الكتاب مشتملا على خمسين بابا ، بناء كل باب منها على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم في عٌقَيْبِ كل سُنة منها بحسب ما يمن الله به من التوفيق لذلك إن شاء الله .


فالكتاب فيه خمسون بابا في الآداب والأخلاق الفاضلة التي هي صفات العقلاء صفات أولي النهى وتنوعت هذه الشعب بين شعب مأمور بها فيفعلونها وشعب منهي عنها فيتقونها ويجتنبونها .


وبعد ذلك نشرع في قراءة هذا الكتاب مستعينين بالله تبار ك وتعالى طالبين مده وعونه وتوفيقه وأن يجعل مجلسنا هذا خالصاً لوجه وأن ينفعنا به إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل
نعم
المتن:


بسم الله الرحمن الرحيم .الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال الحافظ ابي حاتم محمد بن حبان التميمي البستي رحمه الله تعالى في كتابه روضة العقلاء ونزهة الفضلاء


بالحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية المتعزز بعظمة الربوبية القائم على نفوس العالم بآجالها والعالم بتقلبها وأحوالها المانِّ عليهم بتواتر آلاءه المتفضل عليهم بسوابق نعمائه ،الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير فمضت فيهم بقدرته مشيئته ونفذت فيهم بعزته إرادته فألهمهم حسن الإطلاق وركّب فيهم تشعّب الأخلاق وهم على طبقات أقدارهم يمشون وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضى وقدر عليهم يهيمون وكل حزب بما لديهم فرحون
وأشهد ان لا إله إلا الله فاطر السموات العلى ومنشئ الأراضين والثرى لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المرتضى ،بعثه بالنور المضيء والأمر المرضي على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ودمغ به الطغيان وأكمل به الإيمان وأظهره على كل الأديان وقمع به أهل الأوثان وصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله أجمعين .


شرح الشيخ:


نعم .. هذا استهلال بدأ به المصنف رحمه الله تعالى كتابه حامداً الله تبارك وتعالى، مثنياً عليه خيراً بما هو أهله جل وعلا وهو أهل الحمد والثناء ، وقد جمع رحمه الله في هذا الاستهلال حمد الله تبارك وتعالى على ألوهيته وربوبيته وأسمائه تبارك وتعالى وصفاته ، وهذه الثلاث هي أركان الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقوم على أركان ثلاثة :
إيمان بوحدانية الله في ربوبيته وإيمان بوحدانية الله في ألوهيته وإيمان بوحدانية الله في أسمائه وصفاته ،وقد جمع المصنف رحمه الله تعالى في هذا الاستهلال حمد الله تبارك وتعالى على هذه الأنواع الثلاثة الألوهية والربوبية والأسماء والصفات .
قال الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية المتعزز بعظمة الربوبية .


والألوهية: هي الصفة التي يدل عليها اسمه تبارك وتعالى (الله) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .


والربوبية: صفة لله تبارك وتعالى يدل عليها اسمه (الرب) . والربوبية تعني الخلق والرَّزق والتصرف والتدبير فهي توحيد لله بأفعاله جل وعلا.


الألوهية:
تعني إخلاص الدين له وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة فهي تعني توحيده جل وعلا بأفعال العباد بأن يخلص له الدين وأن يفرد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة
قال : القائم على نفوس العالَم بآجالها والعالِم بتقلبها وأحوالها
القائم على نفوس العالم بآجالها: أي القائم سبحانه وتعالى على كل نفس {{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }} .


والله عز وجل من أسمائه القيوم يدل على أمرين:

1-يدل على قيامه بنفسه جل وعلا واستغنائه عن خلقه فهو الغني الذي غناه ذاتي غني عن خلقه من كل وجه.
2-ويدل على قيامه بخلقه وأن خلقه لاغنى لهم عنهم طرفة عين ,فهو المدبر لأحوالهم وشؤونهم عطاءً ومنعا خفضا ورفعا قبضا وبسطا عزا وذلا ، القائم على نفوس العالَم بآجالها العالِم بتقلبها وأحوالها أحاط علمه تبارك وتعالى بكل شيء ,المانِّ عليهم بتواتر آلائه المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه وهذا فيه حمد الله سبحانه وتعالى على منه العظيم وعطائه الواسع، ويكون المصنف بهذا أيضا جمع في هذا الحمد بين نوعي ما يُحمد الله تبارك وتعالى عليه.
فهو عز وجل يُحمد على الأسماء والصفات، الربوبية والألوهية و أسماء الله وصفاته ويُحمد على نعمه وآلائه وعطاياه التي لا تعد ولا تحصى .






قال الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير ،وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته ونفذت فيهم بعزته إرادته
وهذا كله من ربوبية الله هذا كله من ربوبيته سبحانه وتعالى وأن الله عز وجل مشيئته في الخلق نافذة ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي خلق بدأ خلق هذه المخلوقات لا معين له ولا مشير تفرد بالخلق { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } هذا هو معنى قول المصنف بلا معين ولا مشير أي ليس لله عوين أو ظهير أو وزير، فهو عز وجل الغني و المتفرد بالخلق والرزق والتدبير
قال: فألهمهم حسن الإطلاق وركّب فيهم تشعّب الأخلاق وركّب فيهم تشعّب الأخلاق . والإطلاق ضد الإمساك الإطلاق ضد الإمساك
فألهمهم حسن الإطلاق وركّب فيهم تشعّب الأخلاق




وركب فيهم تشعب الأخلاق: إذن مايكون في العبد من إقبال على الأعمال
الفاضلة والكرم والبذل والسخاء والعطاء وغير ذلك , فهذا إلهام من الله له وتوقيق.
فهذه الأخلاق التي تكون بين الناس وهائب , هبات من الله ومنن يمن بها على من شاء, فألهمهم حسن الإطلاق وركب فيهم تشعب الأخلاق .
الناس في أخلاقهم متفاوتون ,هذا صعب وهذا سهل و هذا حسن الخلق وهذا سئ الخلق ,هذا غليظ فظ وهذا لطيف لين وهكذا...
فركّب فيهم تشعب الاخلاق , فهم على طبقات أقدارهم يمشون وعلى تشعب أخلاقهم يدورون .


ليسوا على خلق واحد ولا على نهج واحد بل هم في ذلك متفاوتون ومتباينون,وفيما قضى وقدر عليهم يهيمون وكل حزب بما لديهم فرحون .
ثم عندما تقرأ هذا الكلام أنت لا تدري مالذي كتب الله لك ومالذي قدر,لهذا تجاهد نفسك على الأخلاق الفاضلة متحليا بها وتأدبا , وفي الوقت نفسه تسأل الله ان يهب لك من واسع فضله وجزيل منه ,ماتسعد به في دنياك وأخراك من
كامل الأخلاق وجميل الاداب.


وفي الدعاء المأثور: اللهم إهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ,
واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت
.
قال:وأشهد أنه لا إله إلا الله فاطر السماوات والعلا ومنشأ الأراضين والثرى, [الثرى:هو التراب ] لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه , لا يسأل عما يفعل وهم يسألون , وأشهد أن محمدا عبده المجتبى, ورسوله المرتضى, بعثه بالنور المضئ والأمر المرضي, على حين فترة من الرسل, ودروس من السبل [أي إنقطاع ] فدمغ به الطغيان وأكمل به الإيمان, وأظهره على كل الأديان ,كما قال الله تعالى {{ ليظهره على الدين كله }} وقمع به أهل الأوثان وصلى الله وسلم
مادار في السماء فلك ,وما سبح في الملكوت ملك , وعلى أله أجمعين .








تنبيه : وما سبح في الملكوت ملك من التسبيح . والملائكة يسبحون بحمد ربهم سبحانه وتعالى ,الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم, ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا .
وما سبح في الملكوت ملك وعلى أله أجمعين .




المتن :


أما بعد، فإن الزمان قد تبيَّن للعاقل تغيرُهُ، ولاح للّبيب تبدلهُ،حيث يبسَ ضَرْعُهُ بعد الغَزَارة، وذيَلَ فرعُهُ بعد النَّضَارة، ونَحِلَ عوده بعد الرطوبة، وبَشِعَ مذاقه بعد العذوبة، فنبغ فيه أقوام يَدَّعون التمكن من العقل من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العقل بهَجَسَات قلوبهم، جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عند ورود النائبات حُسنَ اللباس والفصاحة، وزعموا أنَّ مَنْ أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل، الذي يجب الاقتداء به، ومن تخلف عن إحكامها فهو الأنوك الذي يجب الإزورار عنه.
فلما رأيت الرَّعاع من العالم يغترون بأفعالهم والهمجَ من الناس يقتدون بأمثالهم، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف، يشتمل متضمنة على معنى لطيف، مما يحتاج إليه العقلاء في أيامهم، من معرفة الأحوال في أوقاتهم، ليكون كالتذكرة لدوي الحجى عند حضرتهم، وكالمعين لأولى النُّهيَ عند غيبتهم، يفوق العالمُ به أقرانه، والحافظ له أنرابه، يكون النديم الصادق للعاقل في الخلوات، والمؤنس الحافظ له في الفلوات، إن خَصَّ به من يحب من إخوانه، لم يفتقده من ديوانه، وإن استبد به دون أوليائه، فاق به على نظرائه.
أبَيَّن فيه ما يَحْسُنُ للعاقل استعماله من الخصال المحمودة، ويقبح به إتيانه من الخلال المذمومة، مع القصد في لزوم الاقتصار، وترك الإمعان في الإكثار، ليخفَ على حامله، وتعيَه أذن مستمعه، لأن فنون الأخبار وأنواع الأشعار، إذا استقصى المجتهد في إطالتها، فليس يرجو النهاية إلى غايتها، ومن لم يرجّ التمكن من الكمال في الإكثار، كان حقيقاً أن يقنع بالاختصار.
والله الموفق للسداد، والهادي إلى الرشاد، وإياه أسأل إصلاح بالأسرار، وترك المعاقبة على الأوزار، إنه جواد كريم، رءوف رحيم.

شرح الشيخ:


هذه مقدمة لكتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء, بين المصنف رحمه الله تعالى فيها أمرين:
1-الأمر الاول: بين فيه سبب تأليفه للكتاب .
2-الامر الثاني: بين منهجه في هذا الكتاب .


1- أما عن سبب التأليف ذكر أن الزمان قد تبين للعاقل تغيره ,ولاح للبيب تبدله, يعني رأى قي أحوال الناس في زمانه ,وهو من أعيان القرن الرابع الهجري .
فرأى في ذلك الوقت تغيرا وتبدلا في الأحوال , وفتورا في الهمم , وضعفا في الرغبة في طلب العلم ,إقبال على حظوظ النفس من الشهوات والملذات والمتع,وانصراف على ما ينبغي أن يكون عليه العبد من جميل الأخلاق وعظيم الأداب وكريمها , فرأى تبدلا وتغيرا وتحولا .
قال:حيث يبس ضرعه بعد الغزارة وذبل فرعه بعد النظارة, ونحل عوده بعد الرطوبة ,وبشع مذاقه بعد العذوبة .
هذه ثلاثة أشياء أراد أن يصور من خلالها الحال.
قوله: يبس ضرعه .
الضرع:من بهيمة الأنعام موضع الذر والحليب ,فبعد أن كان غزيرا بالحليب صار هزيلا وقليل النفع والفائدة.
وذبل فرعه بعد النظارة: بعد أن كان فرعا نظرا بهيجا ,يسر الناظر لجماله وحسنه
أصبح ذابلا ...فذهبت عنه نظارته .
ونحل عوده بعد الرطوبة: بعد ان كان رطبا بتعاهده بسقي الماء ذبل عوده .
وبشع مذاقه بعد العذوبة: بعد ان كان مذاقه حلوا تحول إلى ان ذهبت عنه حلاوته .
فنبغ فيه أقوام يَدَّعون التمكن من العقل من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العقل بهَجَسَات قلوبهم: أي أنهم أصبحوا يعملون أهوائهم ومبتغيات نفوسهم ,ويزعمون أنها هي العقل ,وانها هي الحكم, وأصبح ما يهواه الإنسان ويميل إليه يصفه أنه العقل .
ولا يكون الحكم عنده كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام , وإنما ما تميل إليه نفسه وتهواه , ولهذا
جاؤوا بأمور مصادمة للعقل ومضادة له, لكونها مضادة لشرع الله تبارك وتعالى ويزعمون أنها هي العقل ,وهذا بسبب التبدل والتغير والبعد أيضا عن الإستمساك بما جاء عن الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه .
قال: جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة: فالعقل تبدل عندهم إلى نوع من النفاق , وإلى نوع من المداهنة .
وإذا أصبح الإنسان منافقا مداهنا, ماكرا مخادعا يقولون عاقل .ويصفون بأن عنده عقل , ولو كانت هذه الأمور على حساب ضياع الدين ,فيعدون الحزم والعقل هو النفاق والمداهنة .
وفروعه عند ورود النائبات حُسنَ اللباس والفصاحة: لباس جميل وهيئة جميلة , وفصاحة في اللسان , هذا من حيث المظهر, أما الحقيقة والمخبر فهي ضياع و انحراف , كلمات مزوقة وعبارات منمقة ولباس حميل ,لكن لا تقف على حقائق قويمة وهدى مستقيمة .
وزعموا أنَّ مَنْ أحكم هذه الأشياء الأربع:[ التي هي: النفاق والمداهنة وحسن اللباس والفصاحة ] فهو العاقل، الذي يجب الاقتداء به، ومن تخلف عن إحكامها فهو الأنوك [[ الأنوك: يراد به العاجز الجاهل , والنوك مرتبة من مراتب الجهل مثل ما سيأتي عند المصنف, قال كذلك الجاهل يقال له في أول درجته المائــق ثم الرقيــع ثم الأنـوك ثم الأحمق فهي درجات ]] الذي يجب الإزورار عنه ,أي البعد عنه, هذا هو سبب التأليف.
قال: فلما رأيت الرَّعاع [[ يعني الغوغا من التاس والجهال ]]من العالم يغترون بأفعالهم والهمجَ من الناس يقتدون بأمثالهم، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف،[[ أي هذا الكتاب , فهو كتاب خفيف ليس بالمطول الموسع ]] يشتمل متضمنه على معنى لطيف، مما يحتاج إليه العقلاء في أيامهم، من معرفة الأحوال في أوقاتهم، ليكون كالتذكرة لدوي الحجى[[ أى العقول ]] عند حضرتهم، وكالمعين لأولى النُّهيَ عند غيبتهم، يفوق العالمُ به أقرانه، والحافظ له اترابه , يكون النديم الصادق للعاقل في الخلوات، والمؤنس الحافظ له في الفلوات[[ جمع فلاة وهي المفازة و أيضا تطلق على الأرض التي لا يهتدى فيها إلى طريق ]]
هذا كتاب يكون له مؤنسا وحافظا له في الفلوات ,يحفظ وقته في العلم والفائدة والمتعة العلمية العظيمة التي تنفعه وتفيده وتؤنسه في الفلوات.
إن خَصَّ به من يحب من إخوانه، لم يفتقده من ديوانه: ما معنى ذلك ؟؟
إذا أخذ يورد لبعض إخوانه من الفوائد التي في هذا الكتاب , تجد إخوانه يرغبون في مجلسه , ومزيد الحضور عنده , حتى يأخذوا أيضا مزيد من الفوائد التي عنده , فإذا خص به من يحب من إخوانه لم يفتقده من ديوانه, أي أنه سيرغب في مزيد الإستفادة منه والتحصيل من هذه الفوائد .
وإن استبد به دون أوليائه، فاق به على نظرائه: أي استأثر به من دون أوليائه, فاق به على نظرائه.


أبَيَّن فيه ما يَحْسُنُ للعاقل استعماله من الخصال المحمودة، ويقبح به إتيانه من الخلال المذمومة:إذا الكتاب يجمع هذين النوعين , يجمع خصال محمودة ذكرها من أجل أن يتحلى بها المسلم , فهي من خصال ذوي العقول وصفات أول النهى .
وذكر صفات قبيحة يجب أن تعذر, وهذا وضحه رحمه الله فيما بعد في( ص 17) قال: وإني ذاكر في هذا الكتاب إن الله قضى ذلك وشاء خمسين شعبة ,من شعب العقل من المأمورات و المزجورات.
ليكون الكتاب مشتملا على خمسين بابا , بناء كل باب منها على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
مع القصد في لزوم الاختصار: أي أنه سلك به مسلك الإختصار, فليس هو بالطويل الممل ولا بالمختصر المخل.
وترك الإمعان في الإكثار ليخفَ على حامله، وتعيَه أذن مستمعه، لأن فنون الأخبار وأنواع الأشعار، إذا استقصى المجتهد في إطالتها، فليس يرجو النهاية إلى غايتها: يعني لو أنني أردت أن أجمع كل ما أقف عليه,
ما أصل لغاية , كثير جدا , لكنني اقتصرت في كل باب ما يتحقق به المقصود من الأخبار والأشعار المفيدة .
ومن لم يرجّ التمكن من الكمال في الإكثار، كان حقيقاً أن يقنع بالاختصار.
و هذا مثل ما يقولون مالا يدرك , لا يترك .
وأما من همته واسعة وكبيرة فدونه المطولات يخوض غمارها ويبحث فيها, وإذا كان الإنسان يريد الإختصار المفيد الذي جمع له الفائدة , سيجد بغيته في هذا الكتاب فيما يخص الموضوع الذي قصده المصنف -رحمه الله تعالى -.والله الموفق للسداد، والهادي إلى الرشاد، وإياه أسأل إصلاح الأسرار، وترك المعاقبة على الأوزار، إنه جواد كريم، رءوف رحيم.






انتهى الشريط الأول
بفضل الله جل وعلا









روصة العقلاء ونزهة الفضلاء

السبت، 26 أكتوبر 2013

تعلم الأدب قبل العلم


حرص السلف على تعلُّم الأدب قبل العلم

لا تحسبنَّ العلم ينفع وحدهما ----- لم يُتَوَّج ربُّـــه بخــــلاق

كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - يحرصون على الأدب قبل العلم ، فإذا أرسلو أولادهم لأهل العلم ليأخذوا من علمهم ، أمروهم قبل العلم أن يتأدبَّوا بأدبهم وهديهم

وكانوا إذا أرسلوهم للمربين والمؤدبين أمروهم بالأدب قبل العلم ،



وكانت وظيفة ( مؤدب أولاد الخلفاء ) من الوظائف المعروفة المشهورة ، ولا ريب في ذلك ، فقد ثبت عند أحمد والحاكم بسندٍ حسنٍ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: )ليس منَّا من لم يُجِلَّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقَّه)[حسنه الألباني] وما ذاك إلاَّ لإدراكهم أهميَّة الأدب ، ومكانته من الدين والعلم.


قال البوشنجي - رحمه الله -

( من أراد العلم والفقه بغير أدبٍ ، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله ) .




وقال الخطيب البغدادي - رحمه الله - : 
( والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً وأشد الخلق تواضعاً ، وأعظمهم نزاهة وتديُّناً ، وأقلهم طيشاً وغضباً ، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابهوسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه ، وطرائق المحدثين ،ومآثر الماضين ، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ، ويصدفوا عن أرذلها وأدونها) .




وعن ابن وهب قال : سمعت مالكاً يقول :
( إنَّ حقَّاً على من طلب العلم أن يكون له وقارٌ وسكينة وخشية ، وأن يكون مُتَّبِعَاً لأثر من مضى قبله ) .

وقال سفيان الثوري - رحمه الله - :
كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدَّب ، وتعبَّد قبل ذلك بعشرين سنة) .


بل كانوا يفتشون في أخلاق وأحوال من يتعلَّمون منه قبل التلقي عنه


قال إبراهيم النخعيًّ - رحمه الله - :
( كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه ، نظروا إلى سمته وإلى صلاته ، وإلى حاله ، ثم يأخذون عنه ) .

وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد : قال لي أبي : 
( يا بنيَّ إيت الفقهاء والعلماء ، وتعلَّم منهم ، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم ، فإنَّ ذاك أحبَّ إليَّ لك من كثير من الحديث ) .


وقال الإمام مالك :
( كانت أمي تُعَمِّمني ، وتقول لي : إذهب إلى ربيعة ، فتعلَّم من أدبه قبل علمه ) .


وأخبارهم وآثارهم في هذا تطول ، يظهر منها أهميَّة الأدب ، ومبلغ اهتمام السلف به ، وإدراكهم لمكانته من العلم والدين 


ودونك أخي طالب العلم ، أهمَّ آداب طالب العلم مع نفسه وأشياخه وأقرانه ، ملخصة ، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة مظانها في كتب الأدب والعلم :

1_ إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم ، والبعد عن الرياء وحظوظ الدنيا .


2_ محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيقها بالمتابعة التامة .


3_ السير على جادة السلف وهديهم والحذر من البدع والهوى .


4_ ملازمة خشية الله تعالى ومراقبته في الغيب والشهادة .


5_ خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء والعجب .


6_ القناعة والزهادة في الدنيا وحطامها الزائل .


7_ التحلي برونق العلم وهديه ولغته .


8_ التحلي بالمروءة وخصال الشهامة والرجولة .


9_ هجر الترفُّه وكثرة التنعُّم .


10_ الإعراض عن مجالس اللهو والهيشات والغفلة .


11_ التحلي بالرفق والصبر والتأمُّل .


12_ التحلي بالثبات والتثبُّت وعدم العجلة .


13_ السير على منهجية الطلب ومراحله المعروفة عند أهل العلم .


14_ أخذ العلم عن أهله المعروفين .


15_ رعاية أدب الشيخ وحرمته وصيانة مجلسه عن اللغو والعبث وسوء الأدب .


16_ الحذر من التلقي عن أهل البدع وأهل الأهواء .


17_ الحذر من قرناء السوء وأصدقاء المنفعة الدنيوية .


18_ ملازمة علو الهمة في طلب العلم .


19_ مراجعة العلم وحفظه ومدارسته وفهمه وكتابته .


20_ الحذر من التصدُّر قبل التأهُّل .


21_ الحذر من القول على الله بغير العلم والجرأة على الفتوى .


22_ تحكيم أصلي الأصول الكتاب والسنة وتقديمهما على غيرهما .


23_ الحذر من الشبهات والأحزاب .


24_ التحلي بالصدق والبعد عن الحسد والنميمة والحقد 
وسوء الظن ومجالسة المبتدعة .


(منقول)




لهذا بشرى لمتابعي مدونة التوحيد حق الله على العبيد 

سنتدارس كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للبستي رحمه الله 

بشرح فضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر 
بغرفة مكارم 

لهذا بعد كل مدارسة سأضع ملف التدارس هنا 
حفظكم الله